Canalblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Publicité
thamonit
8 mai 2007

محمد سلام أمزيان عبد الكريم الخطابي وحرب الريف"-الجزء الأول

الديمقراطي : الإنتخابات أم التجذر وسط الطبقات الشعبية؟ | Page d'accueil | "محمد سلام أمزيان عبد الكريم الخطابي وحرب الريف"-الجزء الثاني »

08.06.2006

"محمد سلام أمزيان عبد الكريم الخطابي وحرب الريف"-الجزء الأول


 

هل تعرف هذا الرجل؟ · من هو؟ هذا عبقري فذ من عباقرة الإسلام، عبقري سياسة وعبقري حرب وقبل ذلك كله هو عبقري نهضة حضارية اجتماعية نراها الهدف الرئيسي لمجتمعنا الحاضر. عرف معاصروه حقه ومنزلته ولكن الأجيال الجديدة تكاد تنساه وليس النسيان ما يستحقه لأن الأمم الحية لا تتخلى عن عظمائها الذين يقدمون لها القدوة والمثال لكي يسير على إثره كل فرد منها وينسج على منواله. هو صنو الأمير عبد القادر الجزائري ونظيره في المغرب الأقصى وبالتحديد في شماله: منطقة الريف، وصفه الشاعر الشعبي المصري "بيرم التونسي" حين وفد إلى مصر منفياً بعد انتهاء حربه البطولية مع الاستعمارين الفرنسي والإسباني فأصاب وصفه حين قال مرحباً به: "داخل علينا ضيف صاحب مقام عالي أعظم رجال السيف في عصرنا الحالي عارفينه يبقى مين؟ ياناس يا ناسيين؟ قولوا: صلاح الدين واحد وده التالي!" أشبه صلاح الدين حقاً في بطولته وعبقريته الحربية وفي عبقريته السياسية وأشبهه خصوصاً في عبقريته النهضوية كما يمكن القول فقد تمكن من تحويل مجتمعه الصغير المفكك والمتناحر إلى مجتمع متماسك استطاع أن يجابه بكفاءة مذهلة الحرب العدوانية التي شنتها عليه دولتان استعماريتان أكبر من بلده الصغير وأغنى وأقوى بما لا يقاس هما فرنسا وإسبانيا. وهذه العبقريات تداخلت ولو تحدثنا الآن عن عبقريته الحربية قبل أن نتطرق إلى جوانبه العبقرية الأخرى فإننا نقول إن أوروبا شهدت له بأنه من العبقريات العسكرية الكبرى في العالم وهو الذي خاض حرباً ضروساً بأسلحة بسيطة لا تذكر ضد جيوش جرارة مسلحة بالعتاد المتطور الثقيل وتتفوق على جيش المتطوعين الذي قاده بالعدد أضعافاً مضاعفة وأوقع بهذه الجيوش التي قادها عشرات المارشالات والجنرالات وأنزل بها هزائم مخزية وأبادها مراراً وأسر من بقي منها من قادة وجنود واستطاع تحرير الريف وبناء دولته على المساحة الصغيرة المتاحة له وعوملت هذه الدولة معاملة الند للند وما خذله في النهاية إلا البنية الاجتماعية التي كانت سائدة في مناطق المغرب الأخرى والتي لم يكن يستطيع أن يغيرها كما غير هو البنية الاجتماعية في منطقته. خذلته تلك البنية الاجتماعية المنحلة، بنية "القابلية للاستعمار" أو "إنسان ما بعد الحضارة" أو "إنسان ما بعد الموحدين" على حد تعبير المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي رحمه الله. قال في حربه كارلتون كون: إنها ملحمة وقال فيه فانستن شين: "إنه ظاهرة فريدة" وقال روبرت فورنو: "إن خططه الحربية تستحق الدراسة" وقد كانت الحرب التي قادها ضد الاحتلال الإسباني كارثة على إسبانيا قادتها إلى الفوضى وأعلن زعماء الدول الاستعمارية من أمثال لويد جورج و ليوطي و بيتان وبول بانليفيه أن حرب الريف هي التي شهدت سقوط الاستعمار الأوروبي وأنها هي بداية نهاية أحلام الاستعمار. ومن الغريب حقاً أن تدرس ناشئتنا "البطولات الحربية الخارقة" لمغامرين عدوانيين من أمثال نابليون بونابرت وأن تجهل هذه العبقرية التي تمتعت في الوقت نفسه بابتكار استراتيجي وتكتيكي لم يسبق له مثيل وبمستوى أخلاقي رفيع كان قادة الاحتلال والتوسع الاستعماريون بعيدون عنه بعد السماء عن الأرض، كل هذا وهو لم يتلق دراسة حربية منظمة قط بل عمل قبل ذلك قاضياً للقضاة! · عالم من عائلة علماء وحلقة في سلسلة العلماء العاملين ولد محمد عبد الكريم الخطابي في منطقة الريف وهي منطقة الشريط الساحلي الشمالي للمغرب الأقصى- المملكة المغربية اليوم- و "الريف" هو سلسلة جبال بهذا الاسم وتقسم إلى ثلاثة أقسام الريف الشرقي والريف الأوسط والريف الغربي وولد محمد في عائلة اشتهرت بالعلم وتولى أبوه القضاء ثم الإمارة وكان علاوة على دوره الاجتماعي والسياسي الخطير فقيهاً مجدداً وقد تتلمذ محمد على أبيه فتعلم اللغة العربية وأصول الدين والتاريخ وأدب العرب حتى لقد كان يحفظ أكثر من ستة عشر ألف بيت من الشعر العربي. وعلمه علاوة على ذلك الفروسية والرماية.(1) وكان أخوه عالماً كبيراً في الدين والفلك والرياضيات ومدرساً في جامعة القرويين. محمد عبد الكريم الخطابي إذاً كان واحداً في هذه السلسلة العظيمة من العلماء العاملين التي امتدت عبر أسماء نذكر منها عز الدين القسام و عمر المختار و عبد القادر الجزائري وابن تيمية و العز بن عبد السلام وهذه الأسماء التي ذكرناها واخترناها من عصور التراجع الحضاري قصداً فدور العلماء في عصور الأوج الحضاري يمكن للأعمى أن يراه (وراجعوا تاريخ الأئمة وتلاميذهم إن شئتم) هي غيض من فيض وتبرهن على سخف الزعم بأن علماء الإسلام كانوا مجرد أتباع للسلطة وأبواق لها وعون على مجتمعها. لقد كان العلماء الكبار عبر التاريخ هم المعبرون عن مجتمعهم والناطقون النزيهون باسمه ومن هذا الدور اكتسبوا محبة الناس فأطاعوا توجيهاتهم واحترام ومهابة الدولة فكانت لا تجرؤ على الاصطدام بهم وتضطر للحد من نزوعها للاستبداد والظلم خوفاً منهم ومن نفوذهم المستحق عند العامة. · نبذة عن تاريخ الريف والمغرب قبل حرب الريف بعد بلوغ المنحدر الحضاري عندنا ذروته سقطت الأندلس نهائياً عام 1492 للميلاد كما هو معلوم(2) وترافقت مع سقوطها وسبقته هجمات لم تتوقف للإسبان والبرتغاليين ثم البريطانيين والفرنسيين على سواحل المغرب الكبير. سقطت "سبتة" في أيدي البرتغاليين عام 1415 م ثم انتزعها منهم الإسبان عام 1688م ولم تزل في أيديهم منذ ذلك الحين واحتل الإسبان "مليلية" عام 1494م التي لم تزل أيضاً في أيديهم هي وجزيرة "النكور" و"الجزر الجعفرية" . واستولى البرتغاليون على طنجة ثم أهدوها كهدية زفاف إلى ملك بريطانيا عام 1660م وعادت بريطانيا و انسحبت منها بعد ذلك بربع قرن ثم احتل الإسبان تطوان عام 1860م وبحسابات القوى الاستعمارية وتوازناتها قررت بريطانيا "إعطاء" منطقة الريف لإسبانيا وبهذا تغاضت الأخيرة عن مطالبتها بجبل طارق الذي احتلته الإنجليز عام 1704.وبريطانيا كانت تستخدم إسبانيا للتوازن مع النفوذ الفرنسي وللحيلولة دون وقوع مضيق جبل طارق تحت تهديد فرنسا إن هي استولت على الريف المتاخم لهذا المضيق. وقد قال وزير خارجية بريطانيا سولسبري "إن أي تقدم لفرنسا في المغرب يعتبر عملاً عدائياً، وإذا تحتم تقسيم المغرب فستكون شهية بريطانيا مفتوحة"(3) وأسفرت المفاوضات بين فرنسا وبريطانيا عن عقد اتفاق سري بينهما عام 1904 سمي فيما بعد "الاتفاق الودي" تتنازل فيها فرنسا عن "حقوقها" في مصر وتوافق على منح الريف لإسبانيا وعلى تدويل طنجة مقابل تنازل بريطانيا لفرنسا عن "حقوقها" في المغرب الأقصى. كانت إسبانيا آنذاك قد تقلصت إمبراطوريتها القديمة بعد فقدانها لأمريكا اللاتينية و الفلبين ورأت في الريف نوعاً من التعويض لأناسها و جيشها ونوعاً من الثأر التاريخي من بلاد أنجبت طارق بن زياد (وأصله من الريف!) وكان لإسبانيا قاعدتان قديمتان في بلاد الريف: سبتة في الريف الغربي ومليلية في الريف الشرقي وظلت قروناً عاجزة عن احتلال أي شبر إضافي من الريف بسبب شراسة أهله في الدفاع عنه بل احتفاظها بالمدينتين كان كثيراً ما يتم تهديده وتحول ظروف عرضية دون استعادة أهل الريف للمدينتين. وقعت فرنسا معاهدة الحماية مع سلطان المغرب عبد الحفيظ عام 1912 وأما إسبانيا فصار عليها بعد أن حازت على "الشرعية" من قبل الاستعمارين الفرنسي والإنجليزي عام 1904كقوة من "حقها" احتلال الريف أن تنفذ هذا الاحتلال عملياً ولم يكن هذا سهلاً مع شعب محارب كشعب الريف وللوصول إلى هذا الهدف استغلت الثغرات الاجتماعية والمطامح الأنانية لرجلين في الريف الغربي والريف الشرقي. في الريف الشرقي سقط عميل إسبانيا –وكان رجلاً مغامراً اسمه جيلالي الزرهوني سمى نفسه سلطاناً – في الحرب مع رجال الريف الأوسط بزعامة والد الخطابي الأمير عبد الكريم ثم قاد في الريف الشرقي سيدي محمد أمزيان حرباً شعواء على الإسبان خسر الإسبان خلالها خمسين ألف جندي وقتل لهم جنرالان هما بينتوس وفيكاريو إلا أنه قتل بغدر أحد عملاء إسبانيا. وفي الريف الغربي كان المغامر الآخر الذي تلاعبت به القوى الاستعمارية ويسمى "سلطان الجبل" وقد تمكن الريفيون من إنهاء البؤرة التي كان يتحصن فيها عام 1925. وبالنتيجة وقع الريفان الغربي والشرقي تحت الاحتلال الإسباني وبقي الريف الأوسط وحده بقيادة والد محمد –الأمير عبد الكريم الخطابي مستقلاً وقد جربت إسبانيا أن تستعمل طرق التآمر –مع الزعامات الطموحة القابلة للشراء- وطرق الدبلوماسية والمهادنة ومحاولة التقارب الودي مع الزعامات الصلبة وعلى رأس هؤلاء الأمير عبد الكريم لهذا عرضت إسبانيا عليه أن توظف ابنه محمداً في مليلية في شؤون الأهالي المغاربة الموجودين في هذه المدينة المحتلة منذ قرون. · عمل الأمير محمد عبد الكريم الخطابي في مليلية وبحسب رواية صديق محمد الخطابي ورفيقه في منفاه في مصر والذي كان يكتب ما يمليه عليه من ذكريات وهو "محمد سلام أمزيان" فإن موافقة الأمير عبد الكريم على عمل ابنه موظفاً في مليلية كان خطوة تهديئية لاستكمال استعدادات الريف لمعركة التحرير ولمراقبة الإسبان عن كثب ومراقبة عملائهم وفوق هذا كان ذلك الفقيه المستنير ذو التوجه الإصلاحي يريد أن يحتك ابنه بالعلوم العصرية واللغات الأجنبية(4) وهكذا تدرج في أعمال تعليمية وإدارية لم يكن القصد منها أصلاً تلقي أجر مادي إلى أن وصل إلى منصب "قاضي القضاة" منذ عام 1914م. وفي أثناء هذه الفترة اعتقل عام 1915. ومع ذلك لم يفقد منصب قاضي القضاة! وفي هذه السنين اطلع عن كثب بآن واحد على وضع الأهالي وعلاقتهم مع الاحتلال الإسباني وعلى وضع المجتمع الإسباني كما ينعكس في ذلك الجزء منه المقيم في مليلية وقد كان آنذاك مجتمعاً متناقضاً مضطرباً وقد زادت حرب الريف لاحقاً في اضطرابه الذي انتهى بالحرب الأهلية في النصف الثاني من ثلاثينات القرن العشرين، وكثير من الجنرالات الذين حاربوه لاحقاً كانوا من معارفه وتلاميذه في دروس اللغة العربية التي كان يلقيها عليهم! وفي اعتقادي أن هذه التجربة الواسعة في وسط المجتمعين المستعمر (بكسر الميم الثانية) والمستعمر (بفتح الميم الثانية) جعلته على اطلاع بآن واحد على عيوب أعداء المستقبل وعلى عيوب مجتمعه التي عليه أن يحاول إزالتها قبل البدء بمعركة التحرير. وفي عام 1915 اعتقله الإسبان متذرعين بعمله في السياسة مما يتناقض مع منصبه الرسمي كقاضي قضاة و بأوراق ضبطت في بيته فيها منشورات الخليفة العثماني التي تدعو المغاربة لمحاربة الفرنسيين ورسائل من إسبان يعارضون حكومتهم ورسائل منه هو إلى الوطنيين الريفيين ووثائق عن نشاط عبد المالك حفيد الأمير عبد القادر الجزائري بالتنسيق مع الألمان ضد الفرنسيين وكل هذه الوثائق مما لا يتسامح به الإسبان. ولكن السبب الحقيقي للاعتقال كان الضغط على والده الذي كان مستمراً في مقاومة محاولة الإسبان بسط الحماية على الريف الأوسط وهذا بعد أن يئسوا من إغرائه بما كان خليقاً بإغراء غيره فقد عرضوا عليه أن يعينوه حاكماً عاماً للريف ونائباً للسلطان ووزيراً في حكومة تطوان ورفض هذه العروض كلها التي رأيناها أوقعت بالكثير من "ثوار" عصرنا هذا!. وهذا الوالد أفهم الإسبان أنه يعد ابنه مجرد جندي في معركة الحرية وأنه لن يتنازل مهما فعلوا بابنه وإزاء هذا الموقف الصلب اضطر الإسبان لإطلاق سراح محمد الذي كان في هذه الأثناء قد كاد يفقد ساقه في محاولة مخفقة للهرب من السجن الذي كان محتجزاً فيه. وأطبق الإسبان على الريف من جانبيه الشرقي والغربي وسقط الأمير عبد الكريم، والد محمد، عام 1920م صريعا في المعركة مع الإسبان. لم يقتل في حرب صريحة بل دس له أحد ضعاف النفوس المرتشين السم بأمر من الإسبان وذلك حين كان يتخذ من منزل العميل والد القاتل، وهو كبير قبيلة "تفرسيت" مقراً له، وانتهت بذلك حياة هذا العالم العامل الذي طالما نازل الفرنسيين والإسبان وكان له تأثير كبير واحترام في أهل بلده سرعان ما انتقل إلى ابنه محمد الذي كان الخلف عن جدارة لهذا السلف الكبير. · انطلاق حرب التحرير من ثورة نهضوية هاهو ذا مجتمع الريف الصغير وقد أطبقت عليه القوى المعادية من كل حدب فلا بد للمجتمع والحالة هذه من أن يشعر بالخطر الداهم على وجوده- خطر ليس على وجوده الجسدي فقط كمجموعة من الأناس الأحياء يتهددهم الفناء بل أهم من ذلك من منظور تاريخي: إنه الخطر على كيانه المستقل كبنية اجتماعية دينية حضارية لها تاريخها الخاص وآلياتها الخاصة في الحياة إلى جانب المجتمعات الأخرى. وبصورة خاصة كان الخطر يتهدد القيم التي تنبني عليها الكينونة المستقلة لهذا المجتمع. وهذا الشعور الداهم بالخطر حين يجتاح أفراد مجتمع ما يمكن أن يكون بداية مباركة لنهضة شاملة واستيقاظ من سبات عميق فهو "التحدي" الذي يستثير "الاستجابة" التي تبني حضارة جديدة إذا استعملنا تعابير المؤرخ الكبير أرنولد توينبي. ولكن هذا الشعور بالخطر لا يكفي لوحده وفي رأيي أن للنهضة أربعة شروط لا بد من تحقيقها: أولاً: شعور المجتمع بالخطر شعوراً حقيقياً عميقاً يتغلغل في كل فرد فيه. ثانياً: وجود طليعة فاعلة واعية ذات إرادة تعي التحدي وتكون على مستواه. ثالثاً: وجود تصور وخطة للرد على التحدي. رابعاً: أن يتغلغل في النفسية الاجتماعية القرار الإرادي الواعي بالتغيير والتخلي عن العادات السلبية من تواكل وأنانية وكسل وتحاسد وتباغض داخلي. وفي الحقيقة توفرت هذه الشروط الأربعة في مجتمع الريف في تلك اللحظة الحاسمة من عام 1920 م. · وضع مجتمع الريف قبل النهضة الخطابية ولنتحدث قليلاً عن الوضع الاجتماعي الذي جاءت هذه النهضة لتغيره: كان مجتمع المغرب في الريف وغيره مجتمعاً منقسماً على نفسه على أسس قبلية بل حتى القبيلة كانت تنقسم على نفسها وقد سادت الصراعات العنيفة بين الجماعات والأفراد وانعدم الأمن وظهرت عادة الثأر التي تفرعت عن عادة الاجتراء على القتل بدافع الاعتقاد الغريزي شبه البدائي بأن ممارسة القوة ضد الأخوة في الوطن والبلد تعبيرعن الشجاعة والرجولة! وكانت النتيجة انحلالاً اجتماعياً تبعه تدهور اقتصادي وصل إلى حد المجاعة وهو بديهي في حالات فقدان الأمن وقد قادت هذه الأوضاع المتدهورة إلى هجرة جماعات مغربية كثيرة إلى خارج المغرب ومنها ما هاجر إلى المشرق وإلى أقطار شمال أفريقيا.(5) · نقطة البدء بعد مقتل والده بدأ محمد فوراً عمله الإصلاحي الممهد للعمل المقاوم للاحتلال والمحرر للبلد. والحدث الذي يجدر ذكره هنا لنعلم أنه كان بعيداً كل البعد عن الأهداف الشخصية في عمله حتى ولو كان من هذه الأهداف الانتقام من قتلة أبيه هو بدؤه بالعفو عن القتلة ولم يقتص منهم! وكرس نفسه لتوطيد الوحدة الاجتماعية بادئاً بتلك العادة الذميمة التي كانت تنخر الجذع الاجتماعي كالسوس: عادة الثأر. ويلفت انتباهنا هنا ما يلفت انتباه المتابع لسيرة حياته كلها: إنه لم يكن ينظر إلى سلوكه مع مجتمعه ومع جيشه ورفاق دربه بالمنظور النفعي المبتذل الذي لا ينظر لأكثر من النتائج المباشرة للفعل. لقد كان سلوكه أساساً من النوع التربوي ويقوم على مبدأ جوهري هو أن يكون المربي قدوة للتلاميذ ولن يكون هذا أبداً إن لم ير التلاميذ بأم أعينهم أن المعلم هو أول من ينفذ السلوكيات التي يطالبهم بها وأنه على درجة من النزاهة والزهد في متع الحياة الدنيا بحيث أنه لا يمكن إلا أن يكون مقتنعاً ومؤمناً بعمق بما يقول إذ انتفت عنه كل الأغراض الأنانية وفي هذه الحالة فقط يكون المربي فاعلاً كنموذج يقتدى به وإننا لنرى في "ثورات" أخرى كيف أفسد القادة جنودهم لأنهم قدموا أسوأ مثل في الجشع المادي والتهالك على لذائذ الحياة ما حل منها وما حرم! لقد كان الخطابي لا يعظ أصحابه بشيء حتى يكون قد فعله ولا يطلب منهم الزهد حتى يبرهن لهم هو بنفسه أنه أول الزاهدين ولا يطلب منهم الصبر والثبات في المعركة إلا وهو في الخندق الأول واقف في جفن الردى وهو نائم! اجتمعت فيه إذاً عناصر القائد المقاوم كلها: النزاهة والموهبة الاستراتيجية والتكتيكية والقدرة على القيادة وعلى تغيير سلوك المجتمع بالاتجاه النهضوي المطلوب لا عبر الإكراه بل بالاقتداء بشخصية قوية مؤمنة واثقة بالله وبشعبها! وبهذه الشخصية سلم المجتمع الريفي له مقاليد القيادة بلا منازع وهو الذي لم يخضع لزعامة واحدة عبر تاريخه الطويل! وحاول استمالة مشايخ الطرق الصوفية للمشاركة في الكفاح فلم يفلح وكان كثير من هؤلاء على درجة مريعة من انحطاط الوعي بل كان كثير منهم عوناً للاستعمار وقام بأدوار سلبية ضد المقاومة كما رأينا في الدور السلبي للطريقة التيجانية في الجزائر حيال الأمير عبد القادر. وبعد أن يئس من هؤلاء المشايخ ذهب إلى الموضع الذي يجتمع فيه رجال قبائل الريف كل أسبوع فتحدث إليهم حديثاً يرويه إلى الأستاذ محمد سلام أمزيان كما يلي: "إن وحدة الصف قوة لها وزنها في كل مجال. الوحدة الوطنية سياج للوطن، ودرع يقي المقدسات الوطنية (...) إذا كان أعداء وطننا يتحدون على الباطل فنحن أولى بهذا الاتحاد لندافع عن الحق. إذا كنا نعيش في الأوهام مستسلمين للدعة والتواكل، فإننا الآن في موقع المواجهة، شئنا أم أبينا. لا عودة إلى الماضي الشائن ولا رجوع إلى حياة الأحلام. الدين والوطن والغيرة والكرامة والحرية وكل القيم تنادينا الآن وتدعونا إلى العمل الرجولي. وإلا فلا حياة ولا وجود. إن القادمين لا يعرفون قيمة للدين- أي دين- ولا للحرمات. إنهم جاؤوا للاستغلال والنهب والعبث والتحكم فعلينا أن نقف ضدهم ثابتين متحدين و إلا فهذه القشور من العقيدة والوطنية التي لا تزالون تحتفظون بها ستتلاشى بما جاء معهم من جديد في عالم الانحلال (...) فإذا كنتم تريدون حياة الإنسان العاقل لا حياة الحيوان الأعجم فاستعدوا وإلا فليس لكم أي عزاء". فسألوه: وبماذا سنستعد وحالنا كما ترى؟ فأجاب: بنبذ الماضي كله أولاً، وبالعقيدة ثانياً، وبالنظام والخطة ثالثاً وبعد ذلك يأتي النصر بإذن الله. (6) ونلاحظ في هذا التصور الأولي الذي قدمه الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي أنه في الحقيقة قدم لهم شروطاً نراها كما قلنا قبل قليل هي اللازمة للنهضة الناجحة القادرة على تحقيق المقاومة الكفؤة التي تحرر المجتمع بآن واحد من كل من "القابلية للاستعمار" والاستعمار نفسه. فهو ذكر الحاضرين بالخطر الداهم على مجتمعهم وقيمه وجسم هذا الخطر لهم فرب مجتمع غافل عن الخطر المميت القريب الذي يتهدده غفلة العصفور عن الصياد الذي يصوب له البندقية. ثم إنه طالبهم بقرار إرادي بتغيير أنفسهم و "نبذ الماضي كله" وهذا القرار يمكن أن يبقى حبراً على ورق لو لم يكن يسري في المجتمع ذلك الخوف الهائل المبارك على الوجود! وسميته "مباركاً" لأنه قد يكون الهدية الإلهية التي كان المجتمع يحتاجها لينهض من سباته قبل أن يموت نائماً! ثم إنه طرح لهم تصوره لخطة العمل: البديل وهو الوحدة الوطنية والنهوض من النوم والبدء بالعمل ولا يكون ذلك إلا إذا استثيرت روح المسؤولية في كل فرد فأحس كأن حياة المجموع أو موته متوقفة على نشاطه هو بالذات! وبهذا يستأصل من جذوره داء التواكل الذي حطم مجتمعنا وجعل الفرد منا يضع المسؤولية على غيره: على الدولة أو القدر وكأن السماء يمكن أن تمطر ذهباً وفضة وكأن العمل ليس بحد ذاته جزءاً من قدر الله! ولقد كان الشرط الرابع للنهضة الناجحة موجوداً أيضاً ألا وهو وجود القيادة الكفؤة الواعية النزيهة وقد كان محمد الخطابي رمز هذه القيادة ولكنه بالتأكيد لم يكن القائد الوحيد إذ شبه الشيء منجذب إليه ومن دعا إلى الحق تبعه أهل الحق وأقبلوا إليه من كل مكان تماماً كما أن الفاسد يجذب إليه الفاسدين! ولا شك أن القائد حين يسمو إلى ذرى أخلاقية رفيعة فإن المجتمع بأسره يسمو معه وهذا ما حصل بالفعل بما يشبه المعجزة خلال سبعة أشهر. المجتمع الذي كان مشهوراً بالنزاعات الدامية التي لا تنتهي بين أفراده والذي كان الشعور بانعدام الأمن يغزو كل فرد منه وكان مبدأ الثأر الجاهلي يمزق فيه ما دعاه مالك بن نبي "شبكة العلاقات الاجتماعية" شر ممزق تحول إلى مجتمع متماسك انتهت منه عادة الثأر كأنها لم تكن هكذا صرنا نرى مثلاً في خندق واحد قائدين من قادة حرب التحرير: "محمد أحمد" و "عبد الكريم الحتاش" وقد كان والد عبد الكريم قتل والد محمد وعاد هذا وقتل القاتل ولقد كانا فيما مضى يتحينان الفرص للفتك ببعضهما أما بعد نشوء المجتمع الجديد فقد اجتمعا في المعركة في خندق واحد (ونعني خندقاً حقيقياً لا مجازياً إذ اشتهر الريفيون بتكتيك الخنادق الذي علمهم إياه الخطابي) أخوين يحمي كل منهما الآخر ويعمل لنجاته. كان الخطابي قد نفذ المبدأ الذي قام على أساسه المجتمع الإسلامي الأول في المدينة: مبدأ المؤاخاة. · إصلاح العقيدة والعبقرية التربوية للخطابي كان الخطابي يرى أن إصلاح العقيدة شرط في النهضة. و لا شك أن فساد العقيدة هو بآن واحد سبب ونتيجة للوضع الاجتماعي الحضاري المنحط وحين طالب الخطابي مجتمعه بنبذ الماضي فقد كان في الحقيقة يريد منه أن ينبذ في جملة ما ينبذه من هذا الماضي المفاهيم العقدية الفاسدة التي كانت تشجع الخمول والتواكل وترى في الدين مجرد عبادات فردية لا انعكاس لها في ميدان التعامل الاجتماعي وكما قال مؤرخه ومرافقه محمد سلام أمزيان كان الخطابي يشرح للناس بأسلوب مبسط "أصول الدين والشريعة بأنها معاملة وأمانة ونظافة ونظام وسلوك و أخلاق ومبادئ وشجاعة وكرم وعلم وبناء وعمران ورسالة في الحياة ووحدة وإخاء وتسامح ومحبة ورحمة ووطنية" والمقاومة الوطنية للمحتلين، وأتمنى من القارئ العزيز أن يتأمل في هذه النقطة، هي أساساً دفاع عن هذه القيم إذ المجتمع الحر لا يدافع عن نفسه ووجوده المادي فحسب بل هو يدافع قبل ذلك عن قيمه الإنسانية الرفيعة.(7) وينتج من ذلك أن حرب المقاومين هي حرب أخلاقية لا تستعمل مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" الذي يسير عليه المستعمر الذي لا تحرك حروبه أصلاً إلا المصالح الأنانية الدنيئة التي لا تأبه بأية أخلاق ولا تمتنع عن ارتكاب أية جرائم. وإذا كانت المقاومة هي مقاومة قيم فإنها تناقض نفسها إذا اتبعت أساليب المستعمر اللاأخلاقية نفسها. ولعمري إن الإنسان ليعتصره الألم حين يرى في أيامنا هذه من لا يرى مانعاً في قتل الأبرياء من مواطني الغرب مثلاً وخصوصاً مواطني أمريكا بدعوى أن أمريكا لا تتردد في قتل الأبرياء! وبهذا يضع هؤلاء أنفسهم في نفس الموقع اللاأخلاقي للخصم. لسنا مستعمرين ونحن نرفض أن نتبنى أخلاق الاستعمار حتى بمنطق الرد على الشر بالشر! إننا حملة بديل أخلاقي للعالم وكيف نكون بديلاً أخلاقياً إن كنا نبرر لأنفسنا استعمال الوسائل اللاأخلاقية؟. وقد استطاع الخطابي أن ينشر روح النشاط في مجتمعه فحتى النشاط الزراعي الذي كان متوقفاً بسبب انعدام الأمن وسيادة روح التواكل استطاع أن يحث شعبه على الاهتمام به مبدياً وعياً بيئياً مبكراً: "الزراعة تغنيكم عن المواد الغذائية التي تستوردونها منهم، والشجرة المثمرة تغنيكم عن فاكهتهم وزيتهم، والمحافظة على الغابات تعيد إليكم المطر ليسقي الزرع والشجر. كل من يزرع شجرة ويعتني بها يعتبر مقاتلاً شجاعاً ووطنياً غيوراً، وكل من قطع غابة يعتبر خائناً للوطن وعدواً لشعبه وأولاده"(8) وباختصار إذا نظرنا بتدقيق فسنجد أن الخطابي كقائد كان مقتدياً بنموذج القائد الأول للإسلام صلى الله عليه وسلم الذي كان أيضاً في آن واحد سياسياً ومربياً وقائداً حربياً ولقد كان المجتمع الريفي في عهد "جمهورية الريف" القصير مقتدياً أيضاً بنموذج المجتمع الإسلامي الأول في المدينة. ويصف مؤرخ الخطابي ومرافقه في المنفى وابن المجتمع الريفي الأستاذ محمد سلام أمزيان التحول الذي جرى للمجتمع قبيل البدء بالحرب الدفاعية ضد الإسبان والفرنسيين قائلاً: "هكذا تغيرت معالم الحياة من أساسها بصورة تدعو إلى إكبار هذا الرجل المصلح. فلقد استجاب الناس للدعوة إلى دروس وعظه وإرشاده وتربيته وتثقيفه وتعليمه. سرعان ما بدت لهم ظواهر المحبة والفضيلة والسلام وأخذوا يتبادلون الثقة والحديث في مختلف الشؤون وكأنهم أفراد أسرة مترابطة. ويسيرون في مواكب تجمع العدو بعدوه والغريم بغريمه وكأن شيئاً لم يكن بينهم أبداً. ويروحون ويغدون بسلاحهم على أكتافهم وليس بأيديهم لاقتناص الفريسة. وإذا اجتمعوا في مكان واحد يضعون سلاحهم في ناحية مجتمعاً دون خوف لأن الأيدي التي كانت دائماً تحمل البندقية لتصويبها إلى الهدف أصبحت تتصافح باحترام متبادل وفي ثقة بالأخوة الاجتماعية. إنه مجتمع جديد حقاً في كل مظاهر حياته السياسية والاقتصادية، فلا لصوصية ولا نهب ولا سلب، سلام دائم، وأمن شامل، وحب كامل، ولا أنانية ولا عنصرية ولا فوضى، إنه مجتمع سليم من عوامل التحلل والانحلال والضعف والاستسلام. مجتمع يؤمن بالتعاون للصالح العام. وفيه إحساس بضخامة المسؤولية" (9) وبهذا المجتمع دخل الخطابي حربه ضد قوى عاتية مسجلاً في الصراع ضدها انتصارات مذهلة جعلت مؤرخي الغرب لا يذكرونها إلا مسبوقة بعبارات من نوع "ليس هذا أسطورة ولكنه حقيقة" (10) ·

17:45 Publié dans Histoire | Lien permanent | Commentaires (1) | Envoyer cette note

Publicité
Publicité
Commentaires
S
احبكم جميعا
S
احبكم جميعا
Publicité